محمد بن سيدي _ الرباط
على ربوة تطل على ضفاف نهر أبي رقراق بمدينة الرباط تستقر أطلال أحد أقدم المدن الأثرية في المغرب، “مدينة شالة”، التي يعود تاريخ بناءها للقرن السادس قبل الميلاد، حيث تختزل بين أسوارها حقبا مختلفة من تاريخ المغرب، بدءا بالرومان ومرورا بعصري المرينيين والموحدين بعد اعتناق المغاربة للإسلام وانتهاء بالعصر الحديث.
مدينة عامرة
فيما مضى كانت شالة مدينة عامرة تعاقبت عليها حضارات الرومان والفينيقيين والوندال (إحدى القبائل التي حكمت المغرب قديمًا) والمورسكيين، واليوم صارت مقبرة تأوي أضرحة ملوك تعاقبوا على حكم المغرب.
هي مدينة وإن هجرها أهلها الذين أقاموا فيها في حقب تاريخية مختلفة، لكن أسوارها وحدائقها وما تبقى من بناياتها التاريخية ما زالت تحفظ ذاكرتهم وذكراهم، إذ تضم آثاراً رومانية وإسلامية عريقة، لم يصمد منها الا بعض الأجزاء، في حين تعرضت أجزاء أخرى للاندثار نظراً إلى عامل الزمن والإهمال وسلسلة من عمليات النهب عبر العصور .
تعاقب الحضارات
على جدران قلعتها وعلى أسوارها، يبتدي تعاقب الثقافات على هذه الحاضرة الغابرة “شالة”، أقواس رومانية ونقوش تعود لزمن المرابطين، ومسجد “يمنارة” بفسيفساء أندلسية وبباحة فسيحة وحديقة سامقة الأشجار بناه الملوك المرينيون، والذين اختاروا لهذه المدينة التاريخية أن تكون مستقرهم الأخير وفيها دفنوا وأقاموا “مقبرة الشرفاء”.
ويعود بناء “شالة” إلى القرن السادس قبل الميلاد، وتعد من بين أقدم المواقع الأثرية في المغرب، وشاهدًا تاريخيًّا على تعاقب حضارات مختلفة على المملكة المغربية، حيث أقامها الفينيقيون بداية كمركز تجاري على شواطئ المحيط الأطلسي، وفي القرن الثالث الميلادي استوطنها التجار الرومان وكانت مرفأ ترسو على ضفافه مراكبهم التجارية.
أطلال فينيقية ورومانية
تعكس بقايا المدينة القديمة تداخل العديد من الحضارات التي تعاقبت على حكمها، ويتكون الموقع الأثري حالياً من مقابر مرينية على أطلال فينيقية ورومانية. الفينيقيون آتوا إلى المنطقة قبل 3 آلاف سنة، وكان يقطنها آنذاك “الجيتول” وهم من سلالة أمازيغية كانت تعيش في شمال إفريقيا. أنشأ الفينيقيون سوقاً أسموها “سالا”، وعندما استعمرها الرومان أُطلقوا عليها اسم “سالا كولونيا”، فيما انتقلت تسمية “سلا” خلال العهد الإسلامي إلى المدينة الموجودة حالياً وأصبح يسمى الموقع شالة.
وعلى أطلال الرومان والفينيق، وآثار خلفها من عبروا هذه المدينة الأثرية من مماليك حكمت المغرب لفترات مختلفة، أعاد ملوك الدولة المرينية لـ”شالة” تألقها، وفيها أقاموا حديقة على الطراز الإسلامي الأندلسي فالمدينة سجلت تاريخ كل من مروا على أرضها بداية بالفينيق وحتى المورسكيين (المسلمون الذين ظلوا بإسبانيا بعد سقوط الأندلس) التي قدموا إليها وإلى جارتها “الرباط” لاجئين بعد سقوط دولتهم.
الشعراء والأدباء
“شالة”، المشرفة على نهر “أبي رقراق” والمطلة على مصبه إلى المحيط الأطلسي، تتزين بمنارة مسجدها وبجواره مدرسة عتيقة كان يتلقى فيها أهل العلم الدروس، ففيها كان يختلي الشعراء والأدباء لتدوين إبداعاتهم، فرباها المجاورة لنهر “أبي رقراق” وخضرة أرضها كانت مصدر إلهامهم وعنها نظموا قصائد وأشعارًا.
بحسب دراسة تاريخية لوزارة الثقافة المغربية فان موقع الشالة ظل مهجوراً ما بين القرن الخامس والعاشر الميلادي، حيث أصبح رباطاً يتجمع فيه المجاهدون لمواجهة قبيلة برغواطة، فيما حظيت شالة في عهد السلطان أبي الحسن المريني (فترة حكمه 1331-1351) باهتمام بالغ، أما ابنه السلطان أبو عنان فترة حكمه (749-759) فقد أتم المشروع، وبنى المدرسة شمال المسجد والحمام والنزل، وزين أضرحة أجداده بقبب مزخرفة تعتبر نموذجاً حياً للفن المعماري المتميز لدولة بني مرين.
ففي الزاوية الغربية للموقع ترتفع بقايا النزالة التي كانت تأوي الحجاج والزوار وفي الجزء السفلي تنتصب بقايا المقبرة المرينية المعروفة بالخلوة، والتي تضم مسجداً ومجموعة من القبب أهمها قبة السلطان أبي الحسن وزوجته شمس الضحى، والمدرسة التي تبقى منارتها المكسوة بزخرفة هندسية متشابكة ومتكاملة نموذجاً أصيلا للعمارة المغربية في القرن الرابع العاشر.
ذكريات تاريخها القديم
وفي الجهة الجنوبية الشرقية للموقع يوجد الحمام المتميز بقببه النصف دائرية، التي تحتضن أربع قاعات متوازية: الأولى لخلع الملابس والثانية باردة والثالثة دافئة والرابعة أكثر سخونة. أما حوض النون، فيقع في الجهة الجنوبية الغربية للخلوة وقد كان في الأصل قاعة للوضوء لمسجد أبي يوسف، وقد نسجت حوله الذاكرة الشعبية خرافات وأساطير جعلت منه مزاراً لفئة عريضة من سكان الرباط ونواحيها.
تراجعت شالة مباشرة بعد قرار المرينيين بإعادة فتح مقبرة القلة بفاس، فأهملت بناياتها، بل وتعرضت في بداية القرن الخامس عشر الميلادي للنهب والتدمير، لتحتفظ بقدسيتها العريقة وتعيش بفضل ذكريات تاريخها القديم على هامش مدينة رباط الفتح، وتصبح تدريجاً مقبرة ومحجاً لسكان المنطقة، ومعلماً تاريخياً يجتذب الأنظار.
وتعتبر مدينة “الشالة” أحد أهم المعالم التي ساهمت في الشهرة التي اكتسبتها الرباط في حقب تاريخية لاحقة، حيث لا تزال تحتفظ بشواهد تاريخية تؤكد أنها كانت موطأ القدم الأولى لمن قدموا بحرًا إلى المغرب وعمروا أرضه وتركوا عليها بعضًا من آثارهم.