الرباط-أسامة بلفقير
بتاريخ 5 مارس 2023، وقف رئيس الكونغو الديمقراطيةفيليكس تشيسكيدي، وإلى جانبه نظيره الفرنسي إيمانويل ماكرون، استعدادا لعقد ندوة صحافية ختاما لزيارة كان يقوم بها ماكرون. لم تمر سوى دقائق معدودة حتى انفجر تشيسكيدي في وجه ضيفه، مطالبا باريس بالكف عن إعطاء الدروس والتعامل مع البلدان الإفريقية من “منطلق أبوي”. وكان واضحا أن تشيسكيدي وضع ماكرون في موقف محرج على الهواء، بعدما طلب الأول من باريس عدم التعامل بسلطوية مع الأفارقة.
لا يبدو أن فرنسا على عهد ماكرون ترغب في الاستماع إلى نبض حلفائها التقليديين الأفارقة، وهؤلاء لم يعودوا قابلين لوضع سابق، كانت فيه باريس تستفيد من خيراتهم من جهة، ومن جهة ثانية تمنح لنفسها عبر صحافتها وجمعياتها الحقوقية ونشطائها ومسؤوليها في بعض الأحيان، أن تقدم الدروس في الديمقراطية وحقوق الإنسان، فتحول الأمر إلى ابتزاز مستمر وأصبح مكشوفا للمواطنين في القارة السمراء قبل غيرهم. دعك من بعض حلفاء فرنسا داخل هذه البلدان الذين يصفقون لكل ما يصدر عنها وعن مؤسساتها الناعمة، هؤلاء سوف تجدهم في الكونغو الديمقراطية والسينغال ومالي وموريتانيا.. والمغرب أيضا، لكن تأثيرهم في مجتمعاتهم يظل ضعيفا للغاية لأن لعبتهم أصبحت مكشوفة.
تحول السلوك الدبلوماسي تجاه فرنسا، التي تحصد الهزائم تلو الهزائم في دول كانت تعتبر مناطق نفوذ بالنسبة إليها مثل مالي وبوركينافاسو..، يرجع لأسباب وعوامل متعددة، لا يسعنا حصرها جميعا، لكن يمكن إجمالها في نقطتين:
أولا: لم يعد من المقبول أن تستغل فرنسا ثروات الدول الإفريقية دون حسيب أو رقيب ومن دون مقابل تقريبا.
ثانيا: لم يعد من المقبول السكوت عن إعطاء باريس الدروس في الديمقراطية وحقوق الإنسان بغرض الابتزاز، وفي مقابل ذلك تتابع الشعوب الإفريقية واقع الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان في فرنسا.
لم تعد فرنسا في موقع لإعطاء الدروس وهي تنتهك مبادئ حرية الرأي والتعبير وتضع السلطة التنفيذية مسنودة باللوبيات الاقتصادية يدها على وسائل الإعلام بمختلف أشكالها، وتجعل منها آلة لمناقشة قضايا لإلهاء الرأي العام الفرنسي. لم تعد فرنسا في موقع إعطاء الدروس وهي تقمع المظاهرات وتنكل بالمحتجين في كل مناسبة يخرجون فيها للشارع.
لم تعد فرنسا في موقع لإعطاء الدروس وقوات أنها ترتكب جريمة لا تغتفر وهي مقتل قاصر على يد رجال الشرطة في ضاحية نانتير قرب باريس. كيف يمكن لفرنسا أن تلقن بلداننا وشعوبها مبادئ الحرية المساواة والإخاء، والعالم يتابع عملية إطلاق نار بدم بارد على قاصر من طرق شخص من قوات إنفاذ القانون. ماذا لو وقع الحدث في بلد من البلدان الإفريقية؟ هل كانت وكالة فرانس بريس أو مجموعة قنوات وإذاعات “ميديا موند” ستتعامل بنفس منطق الحياد الذي تتعامل به مع حد اغتيال الطفل القاصر والتركيز بشكل مبالغ فيه على أنه لم يمتثل لأمر بالوقوف في نقطة تفتيش، مع تسويق تصريحات الرئيس الفرنسي عن الحادث من أجل تهدئة الأوضاع؟ يمكن العودة إلى تغطيات سابقة لنتابع النظرة السلطوية لفرنسا تجاه بلداننا.
أما عندما تعتقل الأجهزة الأمنية متظاهرين اعتبرتهم تسببوا في أعمال شغب، فإن الخبر يتم التعامل معه باعتباره حدثا عاديا في سياق تغطية إعلامية، أما عندما يقع نفس الحدث بالنقطة والفاصلة في بلداننا، فإن وسائل إعلام فرنسا الحكومية تعتبرهم معتقلي رأي.
ازدواجية معايير “ماما فرنسا” أصبحت أمرا واقعا اليوم، ولم يعد من الممكن إخفاؤها رغم كل “الماكياج” الإعلامي للتغطية عليها. لم يعد من الممكن قبول هذا الوضع الذي ورثناه عن مرحلة الاستعمار، المشكل أن الكل أصبح واعيا بذلك، إلا “فرنسا ماكرون”، التي مازالت أسيرة مقاربتها الاستعمارية، ولم تفهم أن لكل دولة مشاكلها وإشكالياتها واحتجاجاتها وصراعاتها ونموذجها الديمقراطي وتطوره، ولكنها تغمض أعينها عن انتهاكاتها وتركز مع ما تعتبره “انتهاكات” لدى الأخيرين.
ولا يسعنا والوضع هذا، إلا أن نردد مع نجم نادي باريس سان جرمان كيليان مبابي: “أتألم لأجل فرنسا”، نتألم لما وصلت إليه بلاد الأنوار مع الرئيس الحالي.