كل تلك المناظر المروعة للمذابح المقترفة في حق مسلمي بورما.. كل تلك الرؤوس الآدمية المشلوخة والأجساد المسلوخة كالشياه.. والأطراف المفصولة المقطعة إربا إربا.. وتلك الجثث التي يتم تحريقها وتفحيمها… والأعراض التي تنتهك كل يوم، والنساء اللواتي يُستبَحن ويُستحيَين من قبَل طائفة “الماغ” البوذية الأصولية المتطرفة.. والأطفال الذين يذبحون ويقتلون ويوءدون في عمر الزهور… وطقوس المجون والتقتيل والذبح الجماعي والرقص فوق الأموات… وكل ذلك الكم الهائل من التنكيل ومن الخسف والقهر والإذلال وردم المنازل فوق الرؤوس والاعتقال والترحيل القسري.. كل هذا وغيره من أصناف وفنون التعذيب لم يشفع لشعب “الروهينغيا” الضعيف، المسكين… ولم يكف مع هوله وبشاعته وفظاعته ليتحرك ضمير العالم لأجلهم ويُفيق من سباته الطويل، ويتنصل من حلمه غير المبرر مع إرهاب الدولة لبورما… أو حتى ليستنفر حمية مليار ونصف من المسلمين.. الذين يشتركون مع الضحية في الدين والعقيدة… ويجرهم ولو إلى أقل الإيمان، فيستنكرون الجريمة ليس بأيديهم، بل بألسنتهم فقط… هذا العالم المعاصر، الذي يبدو وكأنه قد فقد إنسانيته تماما… العالم المنافق، الذي يهتز لمقتل رجل أشقر واحد ويصمت ولا يرف له جفن لتصفية شعب كامل بسحنة مختلفة… شعب تفاقمت “جريرة لونه” بأن كان دينه الإسلام… وهذا العالم الإسلامي الفسيح، المتقاعس، الذي يبدو أنه قد أهين، بدوره، وأهين حتى سهل عليه الهوان وتعود عليه… وحتى لم يعد هناك حضيض معين تهوي إليه كرامتنا المتردية أو مدى لتمريغ نخوتنا في التراب.
أعترف بأنني أيضا لم أكن أعبأ كثيرا بتلك الصور المقرفة التي كانت تطالعني على فيسبوك .. لأني اعتقدت، عن سذاجة.. أو عن قلة حيلة… أن في الأمر مبالغة، وأن هناك فبركة… رأيت أن تلك الصور مصطنعة لأني لم أتمثلها، لم أستسغها، ولم أتصور بالخصوص حدوثها في زمن غزو الفضاء… فما صادفت مثلها حتى في أعتى أفلام الرعب والخيال الجهنمي في السينما. وما تخيلت أن مثل تلك الوحشية والفظاظة والقسوة والرعونة موجودة بيننا في عالم اليوم، وأن بيننا غلاظ قلوب وهمجاً على هذا القدر من العتو والاستكبار.
إنها فعلا مأساة كبيرة أن نكون شهودا على انقراض شعب بأكمله… أن تحصل إبادة أخرى أمام أنظارنا وتحت أسماعنا في عصر مللنا فيه من سماع أنه عصر لحقوق الإنسان الكونية… مخجل فعلا أن يكون للقرن الواحد والعشرين هنوده الحمر من المسلمين، ومحاكم تفتيشه هو الآخر، وحروبه “المقدسة” التي تشن علينا هذه المرة بـ”أوامر” وتعاليم بوذا. مخجل جدا أن ينشغل العالم الحر والمتقدم وكل الدول الكبرى التي تملك ناصية الحل والعقد دوليا بحرب نووية مازالت في عالم الغيب، وتتخاذل وتغض الطرف عن حرب تطهير عرقي تقع الآن في عالم الشهادة.
ولاية أراكانا، مسرح العربدة البوذية… هي ولاية إسلامية قديمة لم يدخلها الإسلام فتحا، بل دخلها اختيارا وقناعة من أهلها الذين تأثروا بأخلاق التجار المسلمين من العرب والهنود والفرس الذين أتوها خلال القرن الثاني الهجري، أيام الخليفة العباسي هارون الرشيد. هناك وفي ذاك الوقت، امتزجت دماء كثير من الأعراق وأعطت شعب “الروهينغيا” المسلم الذي يعيش اليوم أقسى محنة في تاريخه.
هناك تعتيم إعلامي واضح على القضية العادلة لعرق “الروهينغيا” المسلم، وصمّ للآذان عن صراخ الضحية، التي لا يريدون أن يزعجهم أنين اغتصابها، وهناك شبه تواطؤ عالمي عنوانه الصمت واللامبالاة والتجاهل لمأساة هذا الشعب الموحد، الذي لا أنصار ولا بواكي له في المجتمع الدولي.
شعب “الروهينغيا” شعب لا صديق له .شعب سيء الحظ، تنكر له الكل كأنه لم يعد ضمن البشرية… شعب تفضح استباحة حماه زيف النظام العالمي، وكيله بمكيالين في القضايا التي تهمّ المسلمين. فالعالم الذين يدين الإرهاب عندما يمارسه الجاهلون بدين الإسلام هو نفسه العالم الذي يتغاضى عن إرهاب الدولة الذي تمارسه حكومة ميانمار في حق أقلية مسلمة عزلاء لا حول لها ولا قوة.
كيف يصرح رئيس بورما بأن على شعب “الروهينغيا” أن يرحل لأنه ليس من إثنيتهم ولا تتم ملاحقته دوليا بهذه التصريحات العنصرية والتحريضية على ممارسة العنف الأصولي؟ بل، كيف يقف العالم مكتوف الأيد وهناك تطهير ممنهج تشرف عليه مؤسسات الدولة التي قسمت مواطنيها إلى درجة أنها منعت المسلمين منهم من الانتخاب ومن التعليم العالي وعسّرت زواجهم وأغرقتهم في الضرائب ومنعت عنهم الوظائف الحكومية وخصصتهم للسخرة وقيدت حركتهم، كأنهم العبيد الجدد للقرن الواحد والعشرين، أو كأنهم بشر لا تسكنهم الروح الآدمية، بل روح حيوانية تبيح أن تفعل فيهم وبهم أي شيء. كيف يسكت العالم “الحر” الذي يجفف منابع الإرهاب في العراق وسوريا وليبيا لتنظيم مارق عن الدواعش البوذيين الذين ترعاهم هذه المرة دولة عضو في الأمم المتحدة؟!..
إن مثل هذا الاضطهاد المسلط على المسلمين، وهذا السكوت الدولي تجاه مظالمهم بالخصوص هو الذي يقدم المبررات النظرية لأطاريح التشدد والغلو في الدين التي جنى منها الكل الويلات، وهو الذي يفرز، على المستوى المتوسط والبعيد، المتطرفين الذين يخلطون في ما بعد الأخضر باليابس. بل هو من يقوم بتخصيب الإرهاب وزرع بذرته في تربة الظلم والامتهان اللذين عانى منهما العالم الإسلامي في العصر الحديث الأمرّين إلى حد الآن.
وسط كل هذا الظلام الدامس، تمثل مبادرة طيب رجب أردوغان، رئيس تركيا، بتحمل دولته لتكاليف اللاجئين ببنغلاديش كوة الضوء الوحيدة في جدار الصمت المطبق التي تأخرت كثيرا، ولكنها على الأقل قد أتت. إلا أنه كرئيس لمنظمة التعاون الإسلامي ينتظر منه ما هو أكثر من ذلك: عليه أن يعبّئ الحكومات الإسلامية وأن يسعى إلى اتخاذ قرارات شجاعة تكون في حجم البلاء الذي ألمّ بإخوتنا من مسلمي بورما. عليه أن يُفعّل إستراتيجية ناجعة تظهر للعالم أجمع أن طائفة “الروهينغيا” ليست لوحدها، وأن المسلمين هم فعلا كما قال الرسول الكريم كالبنيان المرصوص والجسد الواحد إذا مرض منه عضو تداعت له سائر الأعضاء بالسهر والحمّى.
لقد أصابت فاجعة مسلمي بورما الكبرياء والأنفة والعزة الإسلامية في مقتل، هذا العالم الإسلامي الذي لم ينهزم من قلة، بل من كثرة أضحت غثاء كغثاء السيل، كما أنذر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم. ورغم ذلك، من الإنصاف القول إن التصعيد الأخير ضد “الروهينغيا” هو مظهر من مظاهر تداعي الأمم علينا وأحد تداعيات وسم ودمغ الإسلام بالإرهاب من قبَل بعض الساسة وبعض منابر الإعلام الدولية، ودليل آخر على الاستغلال الانتهازي الممكن للحرب العالمية على الإرهاب من لدن بعض قادة الدول المتطرفين. فزعيمة ميانمار، سوكي، اغتنمت الفرصة لتمربر مخطط كامل لإبادة عرق مسلم وهي مطمئنة الى أنه بإمكانها فعل ذلك على مرأى من العالم من خلال ترديد اللازمة نفسها ضد فئة مسلمة من شعبها تحت ذريعة ولافتة محاربة الإرهابيين دون أن تخشى العقاب الدولي: فاعتراف الأمم المتحدة بنزووح أكثر من 120 ألفا من مسلمي بورما انضافوا إلى 400 ألف آخرين مجمعين في مخيمات اللاجئين منذ سنوات بسبب موجات عنف سابقة، واقتراب الوضع من الكارثة الإنسانية على الحدود البنغالية، خصوصا بعد وأن لجأ جيش بورما إلى زرع ألغام في طريق العودة لإرغام الفارّين على تطليق حلم العودة كحرب نفسية موازية للتقتيل والذبح… كل ذلك في نظر هذه الزعيمة “الأيقونة” مجرد أخبار مضللة تخدم مصلحة الإرهابيين! إن هذا الفهم هو مجرد خلط أو حيلة تبتغي بها زعيمة ميانمار ذر الرماد في العيون ودغدغة عواطف العالم الغربي لمضي دولتها في جريمتها إلى النهاية.
إننا نتساءل إن كان هذا العالم المجنون، أو بالأحرى هذا النظام العالمي الظالم، لا يرى أنه لا يعدل في معاملة المسلمين وأنه، بازوراره عن تهجير هذا الشعب وتغاضيه عن طرده غصبا وتقتيلا من أراضيه التي بنى عليها في ما مضى مملكة إسلامية تعاقب عليها 48 من السلاطين المسلمين، إنما يخلق شعبا من الموتورين ومن المضطهدين، وأنه يعطي لمن سيتطرفون منهم ولمن سيتعاطفون معهم عن سوء فهم لمقاصد وسماحة الدين ثأرا سيعتبرون أن عليهم أن يطلبوه ليس من دولة بورما وحدها أومن عصابة “الماغ”، ولكن من كل العالم الذي ساهم بصمته في صنع مأساتهم التي لم يسبق أن عرف التاريخ لها مثيلا، بل إن هذا الاضطهاد يحدد من الآن وجهة جديدة وأسبابا جديدة للمتطرفين الحاليين لترويع العالم وإرهابه.
شعب “الروهينغيا”، الشعب المنسي والمقهور الذي يغطي ضجيج العالم على صرخاته… الشعب المدقوق بين مطرقة ميانمار الظالمة وسندان بنغلادش الفقيرة، قد أضحى الآن وصمة عار في جبين الإنسانية وجرحا مفتوحا ينزف دما من خاصرة الوطن الإسلامي.
يمكن للعالم الإسلامي فعل الكثير وبيده العديد من الأوراق يلعبها لمنع هذه الجريمة في حق البشرية أن تبلغ منتهاها؛يمكنه أن يعقد مؤتمرا للتعاون الإسلامي بنقطة فريدة هي إنقاذ عرق “الروهينغيا” المسلم… وبالتالي إخراج القضية من طابعها الإقليمي وتدويلها… يمكنه أن يضغط لأجل اجتماع لمجلس الأمن بخصوص مسلمي بورما… والدفع في اتجاه سحب جائزة نوبل للسلام عن زعيمة ميانمار، أونغ سان سوكي، التي لم تعد تستحقها، و فرض عقوبات دولية على هذه الدولة المارقة… والشروع فيها كدول إسلامية منذ الآن من خلال سحب السفراء دفعة واحدة، وعبر المقاطعة الاقتصادية… بوسع المسلمين أيضا تدعيم دولة بنغلاديش المسلمة لاستقبال مؤقت في ظروف حسنة لللاجئين، بالمال والغذاء والدواء. وبوسعهم أيضا فتح الجامعات الإسلامية والعربية أمام شباب بورما المسلم لتسليحه بالعلم والمعرفة… ولأجل ذلك ينبغي على الإعلام العربي والمسلم والمجتمع المدني أن يتجندا ويكونا قاطرة لهذا التضامن الواجب علينا جميعا…
وأخيرا يا أيها القادة المسلمون… ويا أيتها الشعوب المسلمة… إن شعب “الروهينغيا” المسلم بحّ صوته بمناداتكم واستصراخكم… وها أنتم ترون كيف صار رجاله الآن يبكون أمام عدسات الكاميرا… وعندما يبكي الرجال ربما لا يكون قد بقي هناك شيء كثير يمكن إنقاذه… وربما يكون قد فات القطار… فانظروا، رغم ذلك، ما أنتم فاعلون.
*أستاذ بكلية الطب بالرباط