من حي نويبة بمدينة العيون بدأت القصة، ومعها بدأت رحلتي من كولومينا؛ حيث شاءت الصدف أن أمر على “كراج” لتنظيف السيارات بالحي، لأزيل عن عروسي الحديدية حمرة أفسدت بياضها البهي. خلال لحظات التجهيز بدأ حديث ذو سجون، قال أحد العمال من دون سابق انذار، تبا … لماذا يأتون بلاعبين فاتهم القطار ليضحكون بهم علينا، ماذا سيقدم مثل هؤلاء لهذه الأرض ولأهلها، فنحن في أمس الحاجة للأموال الطائلة التي تصرف على هذه المهازل، فمنا الفقير والمحتاج والمريض والمعطل و..و..و…، قاطعه رفيقه: أصلا من أتى بهم؟ أصبحنا نعيش في مدينتنا كالغرباء، يأكلون غلتنا ورزقنا ومستقبل أولادنا ونحن نتفرج. صاح أحدهم كان على مقربة من المكان لعله من أبناء هذا الحي، إنه الفساد بعينه إنه الظلم والتبذير. سينتقم منهم الله آجلا أم عاجلا، “وكلنا عليهم مولانة” قالها بحسرة. وهو ذات الشعور العابر الذي غمرني في تلك اللحظة ولعل انشغالي بمراقبة رفيقة الدرب التي بدأت تسترجع صفاءها، حال دون مشاركتي إياهم أطراف الحديث.
الآن أصبحت السيارة جاهزة، أديت أجرة الخدمة وانسحبت بهدوء لأركب سيارتي الجديدة،نعم فهي كذلك الآن. انطلقت مسرعا عبر شوارع المدينة، إلى أن اقتربت من التقاطع الطرقي القريب من ساحة الدشيرة… “يا وييل هذا شنهو”، جملة قلتها لنفسي، لتفاجئي بالزحمة الشديدة والحركة غير عادية بالمكان. على قارعة الطريق مجموعة كبيرة من الدراجات الكبيرة الحجم المتوقفة وحولها عدد كبير من المتجمهرين. نزلت من سيارتي بعد بحث طويل ومضن عن مكان لركن، ودخلت هذه المعمعة لعلي أفهم ما يجري… وأنا مترجل أثارت انتباهي حافلات تقل مجموعات بشرية، ترى رؤوسهم خارجة من النوافذ وبأعناقها “باضجات”، ومنهم من تراه حاملا هاتفه يلتقط الصور، فاستنتجت أنهم غرباء على المدينة، فانتابني الفضول، فسألت أحد المارة الذي كان حاملا معه لافتة مقلوبة لم استطع قراءتها، ماذا يجري: فأجابني ألا ترى نحن نحتفل وهذه وفود قادمة لزيارتنا من مدن أخرى ومن جنسيات مختلفة. اهيه اهيه…. تم سكتت. لقد تذكرت مشهد “كراج” نويبة، وربطت بين المعطيات ففهمت أن الأمر مرتبط بالحديث الذي دار أمامي قبل قليل. مباريات ووفود ودراجات إنها معمعة كبيرة حقا… ستُلتهم ميزانيات ضخمة إذن.
عدت إلى سيارتي متناسيا الأحداث التي مرت أمامي كشريط مشروخ، فتحت المذياع بهدوء، ففزعت، نعم لقد أفزعني صوت مذيع متحمس، خيل لي لبرهة أنه معي: “إنها العيون قبلة الكون لاعبون وفنانون من كل بقاع العالم، الشيخة تراكس ستحيي حفلة كبرى بمدينة المرسى…”. سرحت لبرهنة لكن اسم تراكس أثار في نفسي الفضول؛ فلأول مرة اسمع اسم فنانة بهذا الاسم. رحم الله أهل الفن الأصيل، ما هذا الهراء الذي شوش على هدوء المدينة… سكت للحظة …ربما قصدو الشيخة التسونامي قلت متسائلا؟، لكن لا يهم فأنا لست من المهتمين بفناني الكابريهات الذين تحولوا بقدرة قادر إلى نجوم وفنانين بمدينتي الذي أضحت غريبة عني أنا أيضا. تذكرت مشهد الصباح وتساءلت في حسرة عميقة هذه المرة: ماذا سيقدم مثل هؤلاء لهذه الأرض وأهلها، سويعات من المجون وتحريك للمؤخرات والضحك على الذقون، وفرجة عابرة ستلتهم ميزانيات ساكنة تعاني في صمت ومن دون أن تحدث أي أثر يذكر، هكذا حدتث نفسي أمام منصات منصوبة وأعلام مرفعوة ورجال كالنمل لا أدري سبب عجلتهم وصياحهم هنا وهناك. فجأة، تقطع حبل أفكاري، رائحة زكية عمت المكان، لم أعرف مصدرها، تلفت إلى شمالي فلمحت فتيات فاتنات داخل سيارة فارهة غريبة، يا إلاهي قهقهاتن متعالية وكأنها عندليب ينشد على المنصة المنصوبة، لقد غيرت رأيي ربما سأحضر سهرة هذه الليلة، فالإنسان يحتاج إلى وقت للترويح عن نفسه وخلق أجواء السعادة، هكذا عبر جانب الطيش الذي يسكنني ولكن بدون اقتناع ربما…”خلي ذاك جمل بارك”.
واصلت جولتي التي أضحت رحلة في مدينتي الغريبة، باتجاه أحد المقاهي التي أتردد عليها. وعلى مقربة منها وقعت مفاجأة أيضا، فمدينتا، على ما يبدوا، تعيش حالة خاصة واستثنائية هذه الأيام ؛ حشود غفيرة أثرت بالسلب على حركة السير، تجنبتها بصعوبة وهممت بالدخول إلى البرج الذي اتخذه للمراقبة بين الفثرة والأخرى، نظرا لمكانه الاستراتيجي … فسألت صديقي النادل ما هذه المعمعة الكبيرة، ماذا يجري؟ فأجاب: إنهم يلتقطون الصور مع النجم “نيبة”. النجم “نيبة” قلتها بتعجب واستنكار لا يخلو من تهكم، ليرد علي صديقي باستغراب هو الآخر: ألا تعرف نيبة إنه صاحب السُبة الشهيرة :” الله ينعل بات بات مك”، أنظر لقناته على اليوتوب يتابعه الملايين.. تسمرت في مكاني، فلأول مرة أعلم أن سُبة قد تحول إنسانا إلى نجم يتهافت عليه المئات لاتقاط صورة للذكرى..
ومع هذا النجم بين قوسين انتهت رحلتي لهذا الصباح، والتي بدأت من حي كولومينا نويبة واستقرت عند نيبة، لعلي أقوم برحلة جديدة استبدل فيها سيارتي بقيادة التراكس….
لك الله يا أرضي ولنا الله.