د.. يوسف يوسف الحزيمري
إن من أعظم المنن التي منَّ الله بها على عباده بعد نعمة الإيجاد والإمداد، نعمة الهداية، بأن بعث في كل أمة رسولا {ولكل أمة رسول}[يونس: 47]، يتلو آيات الله بينات ليخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذنه، وما كان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بدعا من الرسل{قل ما كنت بدعا من الرسل} [الأحقاف: 9]، إذ جعله الله خاتم الرسل والأنبياء، وامتن به على العالمين عامة،{وما أرسلناك إلا كافة للناس}[سبأ: 28]، وعلى المؤمنين خاصة، قال تعالى: {لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين} [آل عمران: 164].
والآية كما قال ابن جزي في تسهيله: “إخبار بفضل الله على المؤمنين ببعث رسول الله ﷺ”[1] ، وقال القرطبي: “وَخَصَّ الْمُؤْمِنِينَ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُمُ الْمُنْتَفِعُونَ بِهِ، فَالْمِنَّةُ عليهم أعظم”[2] ، ومعنى: “(لقد منّ الله على المؤمنين) أي أحسن إليهم وتفضل عليهم، والمنة النعمة العظيمة”[3] ، فكانت بعثة النبي صلى الله عليه وسلم أعظم فضل ومنة على المؤمنين وعلى العالمين، “{والله ذو الفضل العظيم} [الجمعة: 4] ذو المن العظيم على خلقه ببعثه محمدا صلى الله عليه وسلم”[4] ، قال الرازي: “أن بعثة الرسول إحسان إلى كل العالمين، وذلك لأن وجه الإحسان في بعثته كونه داعيا لهم إلى ما يخلصهم من عقاب الله ويوصلهم إلى ثواب الله، وهذا عام في حق العالمين، لأنه مبعوث إلى كل العالمين، كما قال تعالى: {وما أرسلناك إلا كافة للناس} [سبأ: 28] إلا أنه لم ينتفع بهذا الإنعام إلا أهل الإسلام”[5].
فإذا كان نبينا محمد عليه أفضل الصلاة والسلام النعمة المزجاة والفضل العظيم على العالمين، وكان هو الواسطة في تبليغ القرآن ورسالة الإسلام، أمرنا ربنا عز وجل بالفرح بهذه النعمة، قال تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ}، أَيْ: بِهَذَا الَّذِي جَاءَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنَ الْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ فَلْيَفْرَحُوا، فَإِنَّهُ أَوْلَى مَا يَفْرَحُونَ بِهِ، ﴿هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾ أَيْ: مِنْ حُطَامِ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا مِنَ الزَّهْرَةِ الْفَانِيَةِ الذَّاهِبَةِ لَا مَحَالَةَ”[6] ، قال ابن الجوزي في تفسير الآية:”فيه ثمانية أقوال: أحدها: أن فضل الله: الإسلام، ورحمته: القرآن، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس، وبه قال قتادة وهلال بن يساف. وروي عن الحسن، ومجاهد في بعض الرواية عنهما، وهو اختيار ابن قتيبة. والثاني: أن فضل الله: القرآن، ورحمته: أن جعلهم من أهل القرآن، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال أبو سعيد الخدري، والحسن في رواية. والثالث: أن فضل الله: العلم، ورحمته: محمد صلى الله عليه وسلم، رواه الضحاك عن ابن عباس….”[7].
قال الآلوسي رحمه الله: “والمَشْهُورُ وصْفُ النَّبِيِّ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ بِالرَّحْمَةِ كَما يُرْشِدُ إلَيْهِ قَوْلُهُ تَعالى:{وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} [الأنبياء: 107]”[8].
قال ابن عطية: “قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: ولا وجْهَ عِنْدِي لِشَيْءٍ مِن هَذا التَخْصِيصِ إلّا أنْ يَسْتَنِدَ مِنهُ شَيْءٌ إلى النَبِيِّ ﷺ، وإنَّما الَّذِي يَقْتَضِيهِ اللَفْظُ ويَلْزَمُ مِنهُ أنَّ الفَضْلَ هو هِدايَةُ اللهِ تَعالى إلى دِينِهِ، والتَوْفِيقُ إلى اتِّباعِ شَرِيعَتِهِ، والرَحْمَةُ هي عَفْوُهُ وسُكْنى جَنَّتِهِ الَّتِي جَعَلَها جَزاءً عَلى التَشَرُّعِ بِالإسْلامِ والإيمانِ بِهِ، ومَعْنى الآيَةِ: قُلْ يا مُحَمَّدُ لِجَمِيعِ الناسِ: بِفَضْلِ اللهِ وبِرَحْمَتِهِ فَلْيَقَعِ الفَرَحُ مِنكُمْ، لا بِأُمُورِ الدُنْيا وما يَجْمَعُ مِن حُطامِها، فالمُؤْمِنُونَ يُقالُ لَهُمْ: فَلْتَفْرَحُوا، وهم مُتَلَبِّسُونَ بِعِلَّةِ الفَرَحِ وسَبَبِهِ، ومُحَصِّلُونَ لِفَضْلِ اللهِ مُنْتَظِرُونَ الرَحْمَةَ. والكافِرُونَ يُقالُ لَهُمْ: بِفَضْلِ اللهِ وبِرَحْمَتِهِ فَلْتَفْرَحُوا، عَلى مَعْنى أنْ لَوِ اتَّفَقَ لَكُمْ، أو لَوْ سَعِدْتُمْ بِالهِدايَةِ إلى تَحْصِيلِ ذَلِكَ”[9].
قال الإمام الشوكاني رحمه الله:”والأوْلى حَمْلُ الفَضْلِ والرَّحْمَةِ عَلى العُمُومِ، ويَدْخُلُ في ذَلِكَ ما في القُرْآنِ مِنهُما دُخُولًا أوَّلِيًّا”[10].
وختاما يقول الإمام الرازي في بحث هذه الآية: “أنَّهُ إذا حَصَلَتِ اللَّذّاتُ الرُّوحانِيَّةُ فَإنَّهُ يَجِبُ عَلى العاقِلِ أنْ لا يَفْرَحَ بِها مِن حَيْثُ هي هي، بَلْ يَجِبُ أنْ يَفْرَحَ بِها مِن حَيْثُ إنَّها مِنَ اللَّهِ تَعالى، وبِفَضْلِ اللَّهِ وبِرَحْمَتِهِ، فَلِهَذا السَّبَبِ قالَ الصِّدِّيقُونَ: مَن فَرِحَ بِنِعْمَةِ اللَّهِ مِن حَيْثُ إنَّها تِلْكَ النِّعْمَةُ فَهو مُشْرِكٌ، أمّا مَن فَرِحَ بِنِعْمَةِ اللَّهِ مِن حَيْثُ إنَّها مِنَ اللَّهِ كانَ فَرَحُهُ بِاللَّهِ، وذَلِكَ هو غايَةُ الكَمالِ ونِهايَةُ السَّعادَةِ، فَقَوْلُهُ سُبْحانَهُ: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا} يَعْنِي فَلْيَفْرَحُوا بِتِلْكَ النِّعَمِ لا مِن حَيْثُ هي هي، بَلْ مِن حَيْثُ إنَّها بِفَضْلِ اللَّهِ وبِرَحْمَةِ اللَّهِ”[11].
الهوامش:
1. تفسير ابن جزي = التسهيل لعلوم التنزيل (1/ 170).
2. تفسير القرطبي = الجامع لأحكام القرآن (4/ 264).
3. فتح البيان في مقاصد القرآن (2/ 369).
4. التفسير الوسيط للواحدي (4/ 294):
5. تفسير الرازي = مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير (9/ 418):
6. تفسير ابن كثير – ت السلامة (4/ 275).
7. زاد المسير في علم التفسير (2/ 335).
8. تفسير الألوسي = روح المعاني (6/ 133).
9. تفسير ابن عطية = المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (3/ 126).