في هذا الحوار يستعرض جمال نصاري، الشاعر الإيراني والأستاذ المحاضر في جامعة “بيام نور”، رؤيته لوضعية الشعر والنثر في الوطن العربي وإيران، ويتحدث عن واقع التجارب المتبادلة بين هذه البلدان بخصوص التظاهرات المشتركة وطبيعة الإصدارات، وكذا طبيعة التنسيق والتعاون الثقافي الأدبي المؤسساتي فيهما.
باعتبارك شاعراً ومثقفاً إيرانياً تزور المغرب لأول مرة (حضرت في مهرجان غايا تمارة أرض الخيرات وملتقی الثقافات) ما انطباعك عن المغاربة وعن الوضع الثقافي بالمغرب؟
أولا، وقبل حضوري إلى المغرب أخبرتني صديقة يمنية موجودة هنا في المغرب بأنني سأحضر إلى بلد شعبه كلهم لطفاء ويحترمون الأجانب.. فهذا أول انطباع وصلني من الخارج، لكنْ عند وصولي إلی المغرب تَغيّرَ هذا الانطباع من مفهوم انتزاعي إلى مفهوم إجرائي تطبيقي جربته على أرض الواقع.. ثانياً، حضرت من أجل مهرجان “غايا”.. وقد رأيت أن المنظمين يحتفُون بالضيوف ويهتمون بهم كثيراً، والمهرجان في المجمل كان جيداً، بما شمل عليه من فقرات موسيقية وأنشطة مختلفة عكست ابتسامة الشعب، فأنا أفرح كثيرا عندما أرى الضحكة أو الابتسامة على وجوه أبناء الشعب. لهذا السبب عندما تكون هناك مناسبات مثل هذه وترى تفاعل الناس، يكون طبيعياً أن تتفاعل مع الآخر.. لكنْ، ربما لأن المهرجان في دورته الأولى فقد لاحظت أنّ قسم الشعر، مثلا، يحتاج إلى بعض المراجعات، وأتحدث هنا عن الجانب الشعري فقط، بل أعطيتُ ملحوظاتي لمدير المهرجان ولمديره التنفيذي حتى يدرُسا في المستقبل إمكانية جعل المهرجان في مستوى “المربد” مثلا أو غيره من المهرجانات الثقافية المعروفة.. تكملة للمشهد الثقافي والأدبي فقد دُعيت إلى حفل توقيع في وزارة الثقافة ولاحظت وجود مشكلة بسيطة موجودة في إيران أيضا، وهي كثرة منح الرخص من غير برمجة علمية متقنة، فليس ضرورياً أن يكون لدينا عشرون حفل توقيع في اليوم الواحد بينما البعد العلمي لا يتجاوز مستوى ندوتين أو ثلاثاً. كما لاحظتُ أن عدد الحاضرين كان قليلا جداً في حفل توقيع الكتاب، رغم أن الشاعرة صاحبة التوقيع حضرت من مراكش إلی الرباط، فالأفضل أن يكون حفل التوقيع في مدينتها حتی تثبت نفسها لجمهورها ومن ثم الانتقال نحو العاصمة.
من جانب آخر، أعجبني أمرٌ مهمّ في شارع محمد الخامس، وهو “معارض” الكتب في الشارع، وبالتحديد في محيط أكشاك بيع الجرائد، حيث لاحظت وجود كتب أكثر من الجرائد، وهذا الأمر جدير بالإنتباه.. في إيران تكون مثل هذه الأكشاك مقتصرة على بيع الجرائد ولا تحتفي بالكتب، بينما هنا توجد جرائد وكتب، وهو ما أشعرني بنوع من النشوة واحترمتُ هذا الموقف.
وأنت تزور المغرب لأول مرة، ما هو انطباعك عن جرائده وعن الكتب المعروضة في المكتبات؟
ما أثار انتباهي هو كثرة الإصدارات الفرنسية، ما ولّد لدي تساؤلا أود لو أعطيتموني تفسيراً له: ألا يحس الشعب المغربي، بتعامله الملحوظ مع الفرنسية، بخطر يهدد اللغة العربية؟ فقد لاحظت أن الإصدارات الفرنسية أكبر من نظيرتها العربية؛ فنرى مثلا عدد الجرائد الصادرة بالفرنسية أكبر من تلك الصادرة بالعربية. ولست أعلم ما إن كان هذا في صالحكم، وهل أصبح أمراً طبيعياً أم أنه ثقافة فرضت نفسها علی ثقافة أخری؟.. فقد أحسستُ بأن البعض وهم يتحدثون بالفرنسية يشعرون بأنهم أكثر ثقافة أو يشعرون بنوع من “البريستيجْ”.. لا أريد أن أحكم من خلال زيارتي الأولى علی شعب مضياف في المجمل ويحترم الأجانب كثيراً.
مثلاً، عند زيارتي لمكتبة الألفية الثالثة، أنا وصديقي التونسي، لاحظنا أن النقد الأدبي، من خلال الإصدارات المعروضة، احتفى أكثر بالرواية مقارنة بالشعر، والغريب أنني وأنا أتصفح كتاباً بعنوان “الشعر المعاصر المغربي” وجدتُ في طياته أن المؤلف يتحدث عن عصر النهضة في المغرب، وبعد ذلك يصل إلى بدايات التفعيلة، وكأن النقد المعاصر المغربي لم يتناول
قصيدة النثر كثيراً.. تمنيت لو وجدتُ كتابا مخصصا لقصيدة النثر المغربية، أو حتى مجلة.
أصدرتم، وأنتم في منطقة عربية، مجلة متخصصة فقط في قصيدة النثر.. كيف يمكن أن ننقل هذه التجربة إلى المغرب؟ مع العلم بأن القراء في مجتمعنا يهتمون أكثر بقراءة الرواية.. هل يمكننا الاشتغال، كمجتمع قارئ للرواية، على قصيدة النثر دون أن يكون هناك نوع من “التناقض”؟
لا يوجد إي تناقض بين قصيدة النثر والرواية، بل نستطيع أن نستعمل تقنيات الرواية في قصيدة النثر. الساحة الشعرية المغربية ليست في حاجة إلی التجربة الإيرانية أو العراقية لأنها قريبة من فرنسا وتستطيع أن تستثمر التجربة الفرنسية في قصيدة النثر. وأود الإشارة هنا إلی أنه لم يسعفني الوقت لكي أتعرف علی جميع الشعراء النثريين المغربيين ولا أستطيع أن أعطي رأياً جازما في هذا الموضوع.
أما قضيتنا نحن في الأهواز فهي قضية أصعب بكثير مما هو عليه الأمر هنا، المجتمع المغربي أو التونسي أو العراقي جاهز لتجاوز مرحلة التفعيلة والانتقال إلی النثرية، وهذا ما حدَث. بينما المجتمع الأهوازي هو مجتمع منغلق على نفسه، مجتمع ديني، ريفي يخضع لأجندة سياسية في الداخل والخارج، في هذا الإطار كتبت -في العدد الرابع من مجلة “حبر أبيض”- مقالا بعنوان “قصيدة النثر وتراكم التابوهات في الأهواز”.. تناولت من خلالها السجون الذاتية للإنسان الاهوازي، الذي يعيش في ثلاثة سجون. الأول هو الدين، فأنت ترى مؤسسة الحوزة العلمية تحاول أن تسيطر على الشعر العربي الإيراني (الأهوازي) لأن رجل الدين العربي يختلف عن رجل الدين الفارسي، ليس له متنفسٌ من الفنون إلا الشعر لأن بقية الفنون هي رجس من عمل الشيطان. فالأخير لا علاقة له بالشعر كثيراً، أما الأول (رجل الدين العربي) فيرى أن الشعر العربي هو إرث أجداده وآبائه فيتدخّل كما يشاء وحسب رؤيته الضيقة.. فنحن لدينا دكتاتورٌ ديني يتدخل في الشعر وفي السياسة، وتمهد له السياسة الطريق حتی تحفظ كرسيها. ولكي تكتمل هذه المنظومة من الدكتاتورية، لدينا العقل الريفي، الذي يخضع لهما معا، فهو يخضع للدين ويخضع للسياسة.. العقل الريفي -وأنا لا أقصد بالريف القرية- يريد أن يذهب إلى الجنة، ببعديها الأرضي والسماوي، فيتجه نحو الدين، ولكي يبقى آمناً يتجه نحو السياسة.. إذن، نحن واجهنا ثلاثة عقول متحجرة وتمكّنا، نسبيا، من تجاوزها. وهكذا أسسنا، تنظيمياً، منذ سنة 2011، لما يمكن تسميته شعراً عربياً إيرانياً حديثاً، أو بعبارة أخرى شعرا أهوازياً.. فكيف خلقنا هذه الأرضية؟ في هذا الصدد أذكر محاضرتي الأولی في الأهواز حول قصيدة النثر وما بعد الحداثة، وبعدها تداولت الأمر مع مجموعة من الشباب، لأنني كنتُ يائساً من “الشيوخ”.. فلكي تبنی منظومة حديثة من الضروري أن تضع يدك في أيدي الشباب، ولا تحاول مع الطاعنين في السن، فقد تراهم وقد راحوا في سبات، ورغم ذلك يريدون أن يكونوا في الواجهة، فتجاوزتهم واخترت الشباب وقلتُ لهم: فلنبدأ بتأسيس حركة قصيدة النثر. بعد ذلك، حاضرت في مجموعة من المدن، ثم نظمنا مهرجاناً لقصيدة النثر ونظمنا ندوات حول هذه القصيدة، لأن الداخل الأهوازي كان معارضاً لقصيدة النثر، وبدأ يشكّك فينا ويعترف، في المقابل، بتجارب العالم العربي..
بعد هذه الحراك الذي حصل سنة2011، وصلنا إلى نتيجة مفادها أن نتجاوز الداخل ونفتح حواراً مع الخارج.. وفي أول مهرجان لقصيدة النثر استدعينا العراق، إذ أسسنا، كعراقيين وإيرانيين، أول مهرجان لقصيدة النثر. وطبعا، لم يكن لدينا دعم، فماذا نفعل؟ لم يكن بإمكاننا أن نأتي بشاعر من المغرب مثلا، فبدأنا نتواصل مع شعراء العراق، الذين كانوا واجهة معروفة وقريبة إلى الأهواز.. لكنْ عندما حضر ضيوف العراق إلى عبادان وشاهدوا التجربة انبهروا واحتضنوا قصيدة النثر العربية في إيران وبدؤوا يكتبون عنا مقالات في صحفهم..
في الدورة الثانية والثالثة استضفنا شعراء من تونس وسورية أيضا، فأصبحنا ثلاثة بلدان. وفي بقية الدورات، أستضفنا شعراء من لبنان وعمان، فأخذت التجربة تتسع شيئا فشيئا..
كم من دولة صارت تشارك في المهرجان حاليا؟
حتى الآن، استقطبنا شعراء من العراق، تونس، عمان، سوريا ولبنان.. ونطمح خلال هذه الدورة إلى استضافة شعراء من المغرب والجزائر، ففي برمجتنا لهذه السنة نأمل أن يحضر شعراء من هذين البلدين..
لماذا اختيار تجربة المغرب والجزائر وليس موريتانيا، التي تتميز لغتها بكونها شعرية تمتح من الشعر الحساني، الصحراوي العربي القح.. لماذا التركيز على شعراء المغرب والجزائر تحديدا؟
لسببين، الأول، بصراحة، هو جهلي شخصياً بالتجربة الموريتانية وباعتبار أنه ليس لدي أصدقاء من الشعراء في هذا البلد حتى أتواصل معهم. السبب الثاني هو قرب المغرب وتونس من فرنسا، فنحن نأمل أن نتعلم من هذه التجربة بالنظر إلى قربها من فرنسا. رغم أنني لاحظت أن شعراء هذين البلدين لم يتأثروا كثيراً بالأدب الفرنسي، فهم قريبون منها جغرافياً فقط، لكن بعض شعراء قصيدة النثر لم يتأثروا بإبداعاتها، فظلت تجربتهم تقليدية.. في البداية فكرتُ بهذه الطريقة، فكأني وأنا أتجول في شوارع المغرب أرى “سوزان برنار”.. أو سوزان (سونتاج) في تونس.. لكني لم أجد في البلدين شيئا من هذا القبيل.
أما بالنسبة لموريتانيا فأنا لا أعلم شيئا عن كتاب قصيدة النثر هناك، لكنْ إن حدث ذلك فسيكون مُشرّفا للمهرجان أن يشارك فيه شعراء من هذا البلد.
بالعودة إلى المغرب، بماذا خرجتم حول قصيدة النثر في المملكة؟ ما الصورة التي تكونت لديكم عن هذه التجربة؟
مفردة “الصورة” التي استعملتها في سؤالك جميلة..فأنا لكي أقوّم تجربة أحتاج إلى إحصائية، هذا ما تعلمناه في الأكاديمية: من الضروري أن تكون لديك إحصائية حتى تستطيع أن تقدّم رأياً نقدياً.. فأنا اطلعت على تجارب مغربية قليلة جداً لا أستطيع من خلالها أن أحكم ما إذا كانت قصيدة النثر المغربية جيدة أو سيئة، لكنْ كمشهد عامّ، في تونس والجزائر والمغرب، هناك أقلام جيدة، لكنْ هناك أيضا أقلام كثيرة من الأفضل ألا تكتب قصيدة النثر.. فلكي لا أسقط في المجاملة، هذه هي الحقيقة، من الأفضل لبعض الأقلام أن تتجه لعمل آخر غير كتابة قصيدة النثر.. لربما تستطيع أن تكون ناقدة أو سينمائية أو مسرحية.. فهم ظلموا قصيدة النثر، لهذا السبب بدأ الآخر، التقليدي، يعاتبنا ويقول: هل هذه هي القصيدة النثرية؟ أهؤلاء أنتم؟ وقد أجبت أحدهم يوماً عندما كنت في تونس بأن المشكلة ليست في قصيدة النثر، المشكلة في بعض الأقلام التي تكتب قصيدة النثر.. أي أن المشكلة في الشاعر وليس في الجنس الأدبي.. حتى في العراق وصلت بعض الكتابات إلى درجة “الإسهال” النثري، لأن كلّ من هب ودبّ صار يكتب قصيدة النثر، ما أضرّ بمستوى هذه القصيدة.
مارأيك في الديبلوماسية الثقافية بين المغرب وإيران؟
كشعبين عصريين ومواكبين للركب العالمي، نحتاج كثيراً إلی التلاقح الثقافي والأدبي. وأتمنی من السفارتين المغربية والإيرانية أن تتفهما هذا المطلب الحضاري. أرجو أيضا استشارة المختصين في مجال الفن والأدب لتفعيل المشاريع الثقافية، ومنها الأسابيع الثقافية المشتركة والمشاركة في المهرجانات الثقافية والشعرية وتبادل الخبرات بين البلدين.