24 ساعة-عبد الرحيم زياد
يبدو أن جلسات هيئات الامم المتحدة باتت المنبر الأبرز الذي تطفو عليه خلافات روسية جزائرية في عدد من الملفات. فقد كان لافتا قبل بضعة أسابيع عندما ثار جدل ساخن بين مندوبي البلدين في مجلس الأمن الدولي على خلفية قضية مشاركة الملاكمة الجزائرية إيمان خليف في الألعاب الأولمبية في باريس.
في ذات السياق ، يرى منصف السليمي المحلل في مؤسسة DW الألمانية، والخبير بالشؤون المغاربية. ان مراقبين توقفوا عند الانتقادات التي وجهها مندوب الجزائر عمار بن جامع، الأسبوع الماضي لدور مجموعة “فاغنر” الروسية في عمليات الجيش المالي شمال البلاد على الحدود مع الجزائر، ودعوته إلى محاسبة “الجهات التي تسببت في قصف أكثر من عشرين مدنيا على حدود البلدين، جراء ما تقترفه بحق القانون الدولي الإنساني”، في إشارة واضحة منه لمجموعة “فاغنر” الروسية الخاصة المتحالفة مع الجيش المالي.
وأكد ا منصف السليمي ، ان ثمة أصداء أخرى للخلافات الروسية الجزائرية تُرصد خارج أروقة الأمم المتحدة، وأبرزها ما يحدث على الحدود الجزائرية الليبية، حيث لا تُخفي الجزائر قلقها من تحركات قوات الجنرال خليفة حفتر المدعوم من طرف “فاغنر” في شرق ليبيا، بمناطق جنوب البلاد ومحاولته السيطرة على مدينة غدامس الاستراتيجية في مثلث الحدود الليبية الجزائرية التونسية. ونقلت تقارير إعلامية عن مصادر مقربة من الجنرال حفتر، أن الجزائر ترفض رغبة روسيا في توسيع نفوذ قوات حفتر على المناطق المتاخمة للحدود الليبية الجزائرية. وتعتبر تحركات الجنرال حفتر ذات أهداف مزدوجة إذ يسعى من خلالها لتطويق الحكومة المركزية في طرابلس، المعترف بها من قبل الأمم المتحدة، بينما تهدف موسكو لفتح خطوط تحرك عناصر “فاغنر” في منطقة استراتيجية لمراقبة الأوضاع في منطقة الساحل والصحراء حيث تقيم موسكو تحالفا متناميا مع كل من مالي والنيجر وبوركينا فاسو.
واضلف المحلل أنه وفي صيف العام الماضي، أثارت تصريحات أدلى بها وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف إثر قبول عضوية كل من مصر والسعودية والإمارات العربية المتحدة وأثيوبيا في مجموعة “بريكس” خلال قمتها (غشت 2023) في جنوب أفريقيا، وعدم قبول طلب الجزائر الانضمام للمجموعة، استياء الجزائريين عندما قال “إن المعايير التي أخذت في الاعتبار لدى مناقشة توسع مجموعة بريكس كانت تشمل وزن وهيبة الدولة ومواقفها في الساحة الدولية”.
ويمكن القول بأن الدخان الذي يظهر على سطح العلاقات الروسية الجزائرية بقدر ما يحمل إشارات على وجود نار ينبعث منها، فهو ينطوي على أبعاد غير مسبوقة في علاقات تحالف تاريخية واستثنائية، رغم الاستمرارية في المشاورات والتعاون الثنائي والزيارات المتبادلة، بما فيها زيارات قام بها الرئيس عبد المجيد تبون ورئيس هيئة أركان الجيش الفريق أول السعيد شنقريحة في العامين الأخيرين إلى موسكو، مقابل زيارات قام بها وزير الخارجية سيرغي لافروف وقادة الجيش الروسي إلى الجزائر.
توجهات وحسابات متضاربة
رغم الالتقاء الموضوعي أو المنسق بين روسيا والجزائر في عدد من الملفات الإقليمية والدولية، مثل قضايا الأزمة بين الغرب وإيران، وتوافق الخيارات الأمنية والسياسية في مواجهة انتفاضات “الربيع العربي” ومن أبرز تجلياتها دعم نظام الرئيس السوري بشار الأسد، إلا أن سياسات موسكو والجزائر اعتراها التضارب في عدد من الملفات الاستراتيجية خلال السنوات القليلة الأخيرة، ويمكن رصدها في أربعة ملفات على الأقل.
أولها: تداعيات حرب أوكرانيا والتي تجسدت بالخصوص في اعتماد الدول الأوروبية على الغاز الجزائري كبديل للغاز الروسي، إذ أبرمت الجزائر صفقة تاريخية لتصدير الغاز مع إيطاليا وشركائها الأوروبيين. فيما اعتبر مؤشر على تصدع في تحالف البلدين ولاسيما على مستوى منتدى الدول المصدرة للغاز.
وأدى تراجع مخزون روسيا من الأسلحة والمعدات والذخيرة بسبب الحرب مع أوكرانيا، إلى تراجع صادرات الصناعة العسكرية الروسية، بنسب تفوق 80 في المائة، بحسب أحدث تقرير لمعهد ستوكهولم لأبحاث السلام SIPRI الذي أكد أن التراجع الأكبر في اقتناء الأسلحة ومتطلبات الصيانة بالنسبة للجزائر. كما شهد برنامج التدريبات والمناورات العسكرية المشتركة تقليصا ملحوظا.
ثانيا: عدم قبول عضوية الجزائر في مجموعة البريكس التي تعتبر روسيا والصين اللاعب الأكبر فيها، كمنظمة موازية للنفوذ في مواجهة الغرب.
ثالثا: استراتيجية “الزحف” الروسي في منطقة الساحل
يرصد محللون مؤشرات عديدة من خلال تحركات روسيا المتسارعة في القارة الأفريقية وخصوصا منطقة الساحل والصحراء، على نهج يصفه بعض الخبراء بعبارة عن “زحف”. ويمكن رصده ميدانيا عبر نشر مجموعات “فاغنر” وتوسيع اتفاقيات التعاون العسكري والأمني وفي مجالات الطاقة والمعادن مع دول المنطقة.
وخلال القمة الروسية الأفريقية التي احتضنتها سانت بطرسبرغ في يوليوز 2023، كان واضحا تركيز الرئيس بوتين على الشركاء الأفارقة “الجدد” بمنطقة الساحل والصحراء، حيث الدول مالي والنيجر وبوركينا فاسو، التي شهدت اضطرابات وانقلابات عسكرية، أدت إلى إزاحة النفوذ الفرنسي والأوروبي بشكل عام. ويرى تقرير لمركز “جيوبوليتيك مونيتور” (مقره كندا) أن تحرك موسكو في تلك المنطقة يشكل “مناورة استراتيجية من قبل روسيا لإعادة توجيه الصراع مع الاتحاد الأوروبي، وتحديدًا فرنسا، من أوكرانيا إلى منطقة غرب إفريقيا”.
وعبر إبرامها لاتفاقيات في مجالات تعاون مختلفة، مثل الطاقة والتعدين وتجارة السلاح مع الدول الأفريقية وإحياء العلاقات التاريخية معها، تسعى موسكو في نفس الوقت لاستخدام القارة الأفريقية كقاعدة خلفية لتحركاتها الاستراتيجية المباشرة وغير المباشرة عبر أذرع موازية مثل مجموعة “فاغنر” تقليص النفوذ الغربي، ولكسب مزيد من المصالح التجارية عبر منتوجاتها من الصناعات الحربية والاستيلاء على ثروات طبيعية ومعادن نفيسة استراتيجية.
بيد أن التحركات الروسية لا تؤدي وحسب إلى تقليص النفوذ الغربي وخصوصا الفرنسي، بل تساهم بشكل ملحوظ في التأثير على دور الجزائر في منطقة الساحل والتي تعتبرها مجالا حيويا لها، وتلعب منذ عقود أدوارا إقليمية هناك سواء بفعل نفوذها على محيط حدودها المترامية بآلاف الكيلومترات مع تلك الدول أو في سياق تنسيق مع قوى غربية في قضايا أمنية مثل مكافحة الإرهاب. ففي العام الماضي أعلن المجلس العسكري الحاكم في مالي “إنهاء” اتفاق السلام الموقع عام 2015 في الجزائر مع الجماعات الانفصالية الشمالية وأبرزها فصائل الطوارق.
رابعا: تعتبر الأزمة الليبية، واحدة من الملفات التي تتباين فيها سياسة روسيا مع الجزائر ويدعم كل منهما الطرف المقابل في الصراع الدائر بين سلطتي الغرب الليبي (حكومة طرابلس) والشرق بزعامة الجنرال حفتر.
ما مدى عمق الخلافات الجزائرية الروسية؟
يرى محللون بأن الخلافات التي تظهر في الآونة الأخيرة على سطح العلاقات الروسية الجزائرية، تتجاوز البعد الظرفي للأحداث بسب ظهور متغيرات عميقة في توجهات روسيا وأولوياتها الجيواستراتيجية من ناحية وفي طبيعة المرحلة الصعبة التي تجتازها سياسة الجزائر وعلاقاتها الإقليمية بالخصوص.
ففي الوقت الذي تقوم فيه الشراكة الروسية الجزائرية على الجانب العسكري وبدرجة أقل في قطاع الطاقة، باعتبار روسيا الشريك العسكري الأول للبلد المغاربي الكبير، تلقي التحولات الجيوسياسية المتسارعة في العالم، خصوصا في ضوء حرب أوكرانيا وصراع الصين مع الغرب، بتداعيات عميقة على دور القوى الكبرى والمتوسطة وتحالفاتها، وتعتبر المنطقة المغاربية وشريط الساحل والصحراء ودول الشرق الأوسط، مسرحا واضحا لهذه التداعيات وخلالها تتعرض العلاقات الروسية الجزائرية لاختبارات صعبة؛ إذ يؤدي تنامي علاقات روسيا بدول عربية مثل الإمارات ومصر وحتى المغرب “خصم الأمس” في الحقبة السوفيتية والحليف التقليدي للغرب في شمال أفريقيا، إلى تراجع موقع الجزائر التي كانت لعقود تحظى بصفة أكبر شريك استراتيجي لروسيا. وذلك على خلفية مصالح متبادلة بين روسيا ودول أخرى منها الإمارات التي تعتبر المثال الأبرز على هذا التحول.