هذا المقال جزء من سلسلة ننوي تخصيصها لروائع الأدب العالمي، التي وسمت الذاكرة القرائية لعشاق الأدب، بما تأتى لها من قدرة على الجمع بين جمالية الشكل الأدبي وعمق التصوير لتفاصيل الوضع البشري.
شفيق اكّريكّر* أحمد القاسمي*
إنها رواية قصيرة، تدور أحداثها حول صياد شيخ، يدعى سانتياغو، يصاب بنحس غريب، وما أكثر أنواع النحس والعجز التي تعتري الإنسان عندما يتقدم به العمر: لم يصطد سمكة واحدة، ولا حتى سردينة، طيلة 84 يوما! وعندما ابتسم له الحظ أخيرا ذات يوم، ساق إلى صنارته سمكة أسطورية يعادل حجمها حجم الأسماك التي كان سيصطادها في الأيام الأربع والثمانين الخائبة!!
كيف سيواجه رجل عجوز مثل هذه السمكة العظيمة عِظم البحر؟ كيف يحتفظ بها؟ وكيف سيسحبها إلى الشاطئ؟.. هنا تبدأ ملحمة من أروع ملاحم الأدب، ملحمة اللقاء بين أخوين عدوين: صياد وسمكة، طيلة ما يزيد عن يومين كاملين بنهارهما وليليهما في عرض البحر، فاليومان بأيامهما ولياليهما، اللذان قضاهما الشيخ مشدودا إلى السمكة الأسيرة بخيط رفيع، جعلا الشيخ يحل في السمكة أو السمكة تحل في الشيخ ضمن وحدة وجود شاملة تنطلق من أعمق نقطة في المحيط إلى أعلى نجمة في السماء!
ملحمة تأخذ بوجدان القارئ بعنف، لا يدانيه سوى العنف الذي يشد به الصياد خيط صنارته! لقد أثرّت الرواية بالكثيرين من القراء والنقاد وكذلك المترجمين، لدرجة أن مترجم الرواية إلى اللغة الإيطالية شكا من صعوبة ترجمتها لها لأنه يغالب دموعه أثناءها.
ولكن الإنسان لم يُخلَق للهزيمة، قد يُدمَر الإنسان ولكنه لا يُهزَم..
يتعلق الأمر برواية “الشيخ والبحر” The old man and the sea التي نشرها همنغواي سنة 1952، وقد قِيل إنه كتبها في فترة انحسر فيها تأثيره الأدبي كثيرا، فقد فشلت قبلها روايات عديدة كان كتبها، حتى أن الوسط الأدبي بدأ يتحدث عنه وكأنه لم يعد قادرا على كتابة شيء جيد؛ وقد شكا هو نفسه مرارا لابنة أخيه في تلك الفترة وهو يبكي قائلا إن الكتابة الجيدة تستعصي عليه. أصعب تحد يواجهه الإنسان ليس فقط عندما يشك الآخرون في قدرته، بل عندما يعتقد هو نفسه أن الآخرين محقين في شكوكهم. لذلك رأى نقاد كثيرون تماهيا بين همنغواي وسانتياغو، فكلاهما شيخان كانت لهما أيام مجد في حياة مليئة بالقوة والمتعة، إلا أن النحس أصابهما مع الشيخوخة. ما العمل إذن عندما نخفق؟ أجاب همنغواي في عبارة سارت وكأنها مثل في اللغة الانكليزية:”.. ولكن الإنسان لم يُخلَق للهزيمة، قد يُدمَر الإنسان ولكنه لا يُهزَم”، مضيفا: “أصعب تحد يواجهه الإنسان ليس فقط عندما يشك الآخرون في قدرته، بل عندما يعتقد هو نفسه أن الآخرين محقين في شكوكهم.”
وبالفعل، جاءت الرواية أو رحلة الصيد كمحاولة جديدة لإنتزاع الإعتراف به وبأنه مازال قادراً على الكتابة الجيدة، وسرعان ما حققت الرواية نجاحاً هائلا مدويا جعلت من همنغوي حديث الأدباء والنقاد والقراء مرة أخرى. وبعد الرواية بفترة قصيرة حصل همنغوي على جائزة نوبل.
لنغص الآن في هذه الرواية عسانا نظفر ببعض الأسرار التي جعلت منها أدبا عظيما.
لنأكل الأرز غير الموجود ولنصطد بالشبكة التي بعناها!
بطل الرواية، سانتياغو، واحد من الفقراء، «نحيف أعجف.. وعلى يديه آثار جروح عميقة خلّفها جر الأسماك الثقيلة ورفعها بالحبال، كانت جروحا قديمة قدم التآكلات في صحراء خالية من الأسماك. كان كل شيء فيه قديما ما عدا لو عينيه، فقد كان لهما لون البحر، فرحتين لا أثر للهزيمة فيهما»
الصورة: الملاكم إرنست همينغوي (بالإنجليزية:Ernest MillerHemingway، عاش بين21 يوليو1899 -2 يوليو1961 م)
ولكن كيف لعينيه أن تكونا فرحتين وسط صحراء خالية؟ إما انه يتمتع بلامبالاة رواقية أو أن الفقراء -كما يقال- سُكارى من غير خمر: أبصارهم دائما زائغة وأفكارهم دائما شاردة لكثرة ما يحلمون بطعام وفير أو فراش وتير.. هذه الثمالة هي التي تسمح لنا بفهم الحوار التالي بين الشيخ والصبي (المتعلم عنده):
«سأله الصبي: ما عندك من طعام؟
– قدر من الرز الأصفر مع السمك، هل تريد أن تأكل منه؟
-لا. سآكل في البيت. أتريدني أن أوقد لك نارا؟
-لا. سأشعلها فيما بعد. أو قد آكل الرز باردا
– أتسمح لي بأخذ شبكة صيد السردين؟
– طبعا»
حوار عادي جدا. ولكن الطريف في الأمر أنه «لم تكن هناك شبكة صيد سردين، والصبي يذكر أنهما قد باعاها. ولكنهما كررا هذه التمثيلية الخيالية كل يوم. كما لم يكن هناك قدر رز أصفر أو سمك. والصبي يعرف ذلك أيضا!»
إنها تمثيلية خيالية، ولكنهما متفقان ومتواطئان على لعبها مثل السُكارى تماما. يضيف الصبي:
«سآخذ شبكة صيد السردين وأذهب لجلب السردين. رجاءً! اجلس في الشمس عند المدخل
– نعم. لدي جريدة الأمس وسأقرأ أخبار البيسبول.
ولم يعرف الصبي ما إذا كانت قصة جريدة الأمس خيالية كذلك.»
يعيشان في عالم تداخلت فيه الحدود بين الواقع والخيال، بحيث لا يدري القارئ أين تقف حدود التمثيلية وأين يبدأ الواقع؟ مثلا المبارزة الأسطورية التالية التي جمعت الشيخ ذات يوم بزنجي قوي في أحد المقاهي، هل هي من ماضي سانتياغو أم من بنات خياله؟
«تذكرَ كيف أنه ذات مرة لعب في إحدى حانات الدار البيضاء لعبة قوة اليد مع زنجي عظيم من ثينفويغوس… أمضيا نهارا وليلة ومرفقاهما مرتكزان على خط رُسم بالطباشير على المنضدة وساعداهما منتصبان باستقامة، ويداهما متشابكتان بشدة. وكل واحد منهما يحاول إنزال يد الثاني… وكان هناك رهان كثير عليهما… وغيروا المحكمين كل أربع ساعات بعد الساعات الثماني الأولى ليتمكن المحكمون من النوم.. وطفق المراهنون يدخلون الغرفة ويخرجون منها… وكان احتمال الفوز يتأرجح بينهما طوال الليل. وكانوا يسقون الزنجي النبيذ ويشعلون له السجائر… وعند انبلاج النهار وفيما كان المتراهنون يطالبون بأن تكون النتيجة التعادل وكان الحكم يهز رأسه موافقا(…) كانت المباراة قد بدأت صباح يوم من أيام الآحاد وانتهت صباح يوم الإثنين، وكان عدد من المتراهنين قد طالبوا بالتعادل، لأنه كان يتعين عليهم الذهاب إلى الميناء للعمل…»
مباراة تدوم يوما كاملا متصلا بنهاره وليله!؟ نعم. ويبدو أن شيخنا متخصص في المباريات الطويلة. لذا لن نستغرب من مباراته المرتقبة مع السمكة العظيمة والتي ستدوم هي الأخرى يومين كاملين متصلين.
يتبع في الجزء الثاني
*شفيق اكّريكّر، مدرس فلسفة – المغرب | أحمد القاسمي، باحث ومترجم عراقي DW العربية – ألمانيا